بقلم: رئيس التحرير
__________________
باتَ علينا اليومَ أن ننتبهَ لما يحدثُ في المَمْلَكةِ المغربِيةِ الآنَ، فالمغربُ ليسَ بعيدًا عنَّا، فمِصرُ والمَغربُ فِي إفريقيا، وفي شمالِها، ويُطلَّانِ على البحرِ المتوسطِ، وهما دولتانِ عربيتانِ مسلمتانِ، فَما يحدثُ هناكَ، مؤكدٌ أنَّه سَيتركُ أثرًا هنا.
لم تعُدْ شبكةُ الإنترنتِ مجردَ أداةٍ للترفيهِ أو التواصلِ الاجتماعيِّ، بل تحوَّلَتْ إلى فاعلٍ أساسيٍّ ورئيسيٍّ في المشهدِ السياسيِّ العالميِّ، أعادَ تشكيلَ مفهومِ الثوراتِ والاحتجاجاتِ. وتجاوزَ دورُ هذه المنصاتِ من مجردِ ناقلٍ للأخبارِ إلى منظمٍ للحركاتِ ومحرِّضٍ للجماهيرِ، كما ظهرَ في موجاتِ الربيعِ العربيِّ، وما تشهدُهُ المملكةُ المغربيةُ الآنَ. فباستخدامِ تطبيقِ "ديسكورد" على الإنترنتِ، اشتعلتِ الاحتجاجاتُ واشتدَّتِ المواجهاتُ في العديدِ من مدنِ المغربِ في نموذجٍ يذكِّرُنا بدورِ فيسبوكَ وتويترَ في أحْداثِ ٢٥ ينايرَ بمصرَ عامَ ٢٠١١.
لم تعُدْ منصاتُ التواصلِ الاجتماعيِّ مجردَ مكبرٍ للصوتِ، بل صارتِ المنظمَ الخفيَّ للحركةِ الاحتجاجيةِ، وتمثلُ حاضنةً للغضبِ الشعبيِّ وركيزةً لتعبئةِ الرأيِ العامِّ وتأجيجِ الاحتجاجاتِ. لقد نجحتْ هذه الأدواتُ في تحدي آلةِ الرقابةِ الحكوميةِ والإعلامِ الموجَّهِ، مبرهنةً أنَّ الفضاءَ الافتراضيَّ أصبحَ ساحةَ معركةٍ حقيقيةٍ لا تقلُّ أهميةً عن السَّاحاتِ العامةِ.
إذَا كانَ فيسبوكُ وتويترُ يمثلانِ الجيلَ الأولَ من منصاتِ التغييرِ، فإن تطبيقَ "ديسكورد" يمثلُ نقلةً نوعيةً في آلياتِ التنظيمِ الاحتجاجيِّ، كما يتجلَّى في احتجاجاتِ جيلِ زي بالمغربِ. هذا التطبيقُ، الذي بدأَ كمنصةٍ للألعابِ الإلكترونيةِ، تحولَ إلى سلاحٍ سريٍّ للحركاتِ الشبابيةِ بفضلِ بنيتِهِ اللامركزيةِ ومقاومتِهِ العاليةِ للرقابةِ. ولم يعُدِ الأمرُ يتعلقُ بصفحةٍ عامةٍ على فيسبوكَ يمكنُ مراقبتُها، بل بـ"سيرفراتٍ" مغلقةٍ ومشفرةٍ تجمعُ آلافَ الناشطينَ في فضاءاتِ نقاشٍ نصيةٍ وصوتيةٍ آمنةٍ.
تحوَّلَ سيرفرُ تطبيق "ديسكورد" مجهولُ الهويةِ ضمَّ ١٠٠ ألفِ عُضوٍ إلى غرفةِ عملياتٍ رقميةٍ حقيقيةٍ في المغربِ. منه انبثقتْ قراراتُ تنسيقِ المظاهراتِ في الرباطِ والدارِ البيضاءِ وطنجةَ وفاسٍ ومراكشَ وأكاديرَ والناظورِ وتازةَ ووجدةَ وبنْ جريرٍ والصخيراتِ وتطوانَ، حيث تشهدُ هذه المدنُ احتجاجاتٍ وصداماتٍ بعد المطالباتِ بإصلاحِ التعليمِ والرعايةِ الصحيةِ ومكافحةِ الفسادِ، ومواجهةِ البطالةِ المخيفةِ التي وصلتْ نسبتُها إلى (٣٦٪). والاحتجاجاتُ تجاوزتْ تلك المطالبَ إلى الاحتجاجِ على أولوياتِ الإنفاقِ الحكوميِّ غيرِ المنطقيِّ. ونجحَ تطبيقُ "ديسكورد" في تحويلِ الغضبِ العشوائيِّ إلى حركةٍ منظمةٍ، مكملاً دورَهُ مع منصةِ "تيك توك" التي مثلتِ الواجهةَ الإعلاميةَ لنشرِ مقاطعِ الفيديو المؤثرةِ.
وما يحدثُ في هذه المدنِ المغربيةِ الآنَ أظهرَ أن القوةَ الحقيقيةَ لهذه المنصاتِ لا تكمنُ في تنظيمِها الافتراضيِّ، بل في قدرتِها الفائقةِ على تحويلِ النقاشاتِ الرقميةِ إلى فعلٍ ميدانيٍّ ملموسٍ، وتحوَّلَتْ قنواتُ الدردشةِ على تطبيقِ "ديسكورد" إلى مواجهاتٍ شعبيةٍ في شوارعَ وأحياءَ هذه المدنِ، حيث استطاعتْ تجسيرَ الهوةِ بين العالمِ الافتراضيِّ والواقعِ الماديِّ، محققةً ما عجزتْ عنه الأحزابُ التقليديةُ والنقاباتُ لسنينَ.
الوجهُ الآخرُ للمواجهةِ: أدواتُ القمعِ الرقميِّ
ردًّا على هذه التهديداتِ الجديدةِ، تسارعتِ الأنظمةُ إلى تطويرِ أدواتٍ رقميةٍ مضادةٍ، تتراوحُ بين المراقبةِ الإلكترونيةِ المتطورةِ وحملاتِ التضليلِ الإعلاميِّ، في سباقِ تسلحٍ تكنولوجيٍّ يحددُ شكلَ الصراعِ السياسيِّ في المستقبلِ. وقد شهدنا محاولاتٍ متكررةً لاختراقِ الخوادِمِ ومراقبةِ الاتصالاتِ وحجبِ التطبيقاتِ، لكن الطبيعةَ اللامركزيةَ والمشفرةَ لتطبيقاتٍ مثل ديسكوردَ جعلتْ هذه المهمةَ أكثرَ تعقيدًا مِنْ ذي قبلُ.
ومع هذه القوةِ، تأتي تحدياتٌ جسيمةٌ، فكَما سهَّلَتْ هذه المنصاتُ التنظيمَ، فإنها تتيحُ أيضًا انتشارَ الشائعاتِ بسرعةٍ هائلةٍ، مما قد يزيدُ من حدةِ التوترِ ويؤججُ العنفَ، كما حدثَ فيِ بعضِ المواجهاتٍ فِى جريرٍ وطنجةَ وفاسٍ. وتواجهُ هذه الحركاتُ خطرَ التشرذمِ بسببِ غيابِ القيادةِ الموحدةِ، وصعوبةِ الحفاظِ على زخمِها لِما تُواجِهه مِنَ قمعِ أمنيِّ ووعودِ حكوميةِ.
لم يعُدْ هناكَ شكٌّ في أن منصاتِ التواصلِ الاجتماعيِّ، من "فيسبوكَ" إلى "ديسكوردَ"، قد أعادتْ تعريفَ لعبةِ السياسةِ، بعدما سحبتِ البساطَ من تحتِ أقدامِ الأنظمةِ التقليديةِ، ووفّرتْ للشبابِ سلاحًا لم يعُدْ من الممكنِ مصادرتُهُ. النموذجُ المصريُّ فِى ٢٠١١ كانَ البدايةَ، والنموذجُ المغربيُّ فِى ٢٠٢٥ هو تأكيدٌ على تطورِ هذه الظاهرةِ وتعقيدِها. وأصبحَ الفضاءُ الرقميُّ ساحةَ معركةٍ، حيث تُشعلُ الشراراتُ التي تتحوَّلُ إلى حرائقَ تغيِّرُ – أو تحاولُ تغييرَ – المجتمعاتِ.
والسؤالُ الآنَ ليسَ عما إذا كانتْ هذه المنصاتُ يمكنُها إحداثَ تغييرٍ، بل كيفَ ستتعاملُ الحكوماتُ مع هذه القوةِ، وكيفَ ستتطورُ هذه الأدواتُ ذاتُها، لمواجهةِ تحدياتِ الرقابةِ والتضليلِ في المستقبلِ، في حربٍ رقميةٍ لا يعرفُ أحدٌ إلى أينَ ستقودُ مجتمعاتِنا.