أزمة المدونات العربية
محمد الساحلى
لم تكن المدونات وقت ظهورها الأول سوى سجلات إلكترونية لاهتمامات شخصية، ثم نمت وتطورت لتصبح وسيطاً معرفياً ومساحة حرة للتعبير عن كل الآراء بعيدا عن القيود ووسيلة للتغيير المجتمعي.
بدأت المدونات العربية في الظهور بشكل تدريجي منذ سنة 2003، لكن عددها كان قليلاً آنذاك، ولم تكن كلمة "مدونة" شائعة باللغة العربية. ورغم قلة عدد المدونين آنذاك، إلا أن جودة المدونات كانت لافتة.
وخلال السنة االتالية بدأت ظاهرة التدوين في الانتشار وسط مستخدمي الإنترنت العرب، وبدأت الصحافة العربية تقارب، ولو بشكل محدود، موضوع المدونات. ثم ظهرت خدمات تدوين مجانية باللغة العربية، لتبسيط إنشاء المدونات للعرب، وبدا في الأفق أن ثورة جديدة قادمة؛ ثورة على غرار "ثورة المنتديات" التي فرخت في حينها آلاف المنتديات المتشابهة التي ينقل بعضها عن بعض، دون استحياء!
وتحقق ذلك للأسف بسرعة سنة 2007، حيث بدأت المدونات العربية تتناسخ كالفيروسات ناقلة معها "فوضى المنتديات" بكل سلبياتها، وبدأت أحلام المراقبين تنهار بتناقص جودة المدونات العربية ودخولها مرحلة من الركود ما زال في رأيي مستمرا حتى الآن.
خلال السنوات الأولى لانتشار التدوين عربيا، كانت خدمة Blogger المملوكة لجوجل أفضل وأشهر خدمة تدوين مجانية، لكن بحكم أنها كانت بالانجليزية فقط، آنذاك، بقيت حكرا على فئة من مستخدمي الانترنت العرب، القادرين على التعامل مع اللغة الانجليزية وعلى الصعوبات التقنية لبلوجر. لم يكن إنشاء المدونات آنذاك سهلا، لذلك كان عددها قليلاً. لكن في وقت لاحق، ظهرت خدمات تدوين عربية أرادت تقديم خدمات شبيهة ببلوجر، غير أنها، لأسباب مختلفة، ساهمت في تفريخ مدونات لا تقدم أي جديد، وأحياناً تساهم في إحباط مدونين آخرين مميزين.
استحالة القياس ووهم التفوق
تلك الفوضى لم تغط على كل شيء. فهناك مدونون كثر تميزوا بشكل أو بآخر واستطاعوا ترسيخ مفهوم مختلف للتدوين العربي؛ فبعضهم أنشأ مدونات شخصية لنقل خبراتهم للآخرين، وآخرون اختاروا طريق التعبير المسكون برغبات التغيير، فقادهم ذلك إلى التصادم مع المؤسسات الأمنية، القامعة للحريات، في بلدانهم. لكن لا يوجد نموذج عربي واضح يمكن الجزم من خلاله بقدرة التدوين العربي على التغيير.
وفي سنة 2008 دعا مجموعة من أعضاء فيسبوك المصريين إلى إضراب عام يوم 6 أبريل 2008. والتقط المدونون الحملة وساهموا في ترويجها، وفعلا جاءت النتيجة مذهلة: لقد نجح الإضراب! لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل المدونون هم الذين أنجحوا الإضراب؟ من الصعب الجزم بذلك، ولو أن المدونين المصريين يفضلون التفاخر بقدرتهم على "هز عرش مصر". ففي ليلة الإضراب تدخلت الحكومة المصرية ، عبر وسائل الإعلام، لتنفي وجود أي إضراب وتساهم، بشكل غير مباشر، في ترويع المواطنين وتخويفهم مما يمكن أن يحدث. وفي رأيي أن هذا هو ما دفع المواطنين إلى البقاء في البيت يوم الإضراب وعدم الذهاب إلى عملهم، ليس مشاركة في الإضراب بل خوفا مما يمكن أن يحدث في الشارع يوم الإضراب.
وهذا مجرد نموذج بارز لما اعتبر دليلا على قدرة المدونين على التغيير، لكن دون وجود إمكانية إثبات حقيقية على أن ما حدث كان بفضل المدونات.
في الكويت يتم الحديث عن حملة "نبيها خمسة" التي أريد منها سنة 2006، الدعوة إلى التقليص من الدوائر الانتخابية في الكويت. الحملة نجحت وحققت أهدافها، وتم نسب فضل ذلك إلى المدونين، رغم أن عدد المدونين الكويتيين أقل بكثير من أن يحدثوا مثل هذا الأثر. ولا يمكن إنكار مساهمة المدونات الكويتية في التعريف بالحملة، خاصة لمن هم خارج الكويت، أما التأثير الحقيقي للحملة في رأيي فهو ما قام به الشباب فعلا على أرض الواقع.
لا أقصد هنا التقليل من قدرة المدونات العربية على التغيير، بل أتحدث عن صعوبة قياس تلك القدرة. بكل تأكيد ساهمت المدونات العربية في تحريك كثير من القضايا، لكن تلك المساهمات ضُخمت من طرف الصحافة، فاقتنع بعض المدونين بذلك واقتنعوا بأنهم فعلا سلطة قادرة على التغيير، رغم أننا لو جلسنا لنتناقش بهدوء سوف نجد أنه لا شيء حقًا تغير.
هل ساهمت المدونات العربية في إنقاذ أطفال غزة وتقديم المساعدات للمحتاجين كما فعلت المدونات الأمريكية خلال إعصار كاترينا؟ هل ساهمت المدونات العربية في إسقاط رؤوس الفساد في البرلمانات والحكومات العربية؟ هل ساهمت المدونات في خلق تغيير حقيقي ذي أثر مستقبلي فعال؟
كلا للأسف. إذن أي تأثير هذا الذي عنه يتحدثون وله يطبلون ويزمرون؟
مواضيع المدونات وسياسة النعامة
حين بدأت ظاهرة انتشار المدونات في العالم العربي انتشرت معها مقولة أن المدونات ستأتي بالديمقراطية إلى الدول العربية! لكني أعتقد بعد أكثر من ست سنوات من انطلاق المدونات العربية أن هذه المقولة لا أساس لها، فالديمقراطية هي التي تصنع المدونات وليست المدونات التي تصنع الديمقراطية.
حين نتحدث دوما عن نجاحات المدونات الأمريكية، نتجاهل مسألة الديمقراطية المتجذرة لدى الشعب الأمريكي، وما يعنيه ذلك من حق المواطن في التعبير عن وجهات نظره بأمان، ووصوله الميسر القانوني، لمصادر الخبر.
حكومات الدول العربية تعاملت بطرق مختلفة مع ثقافة التدوين، والهدف دائما تقويض التجربة: تونس ودول أخرى تعاملت مع المسألة من الناحية الرقابية فحجبت الكثير من المواقع وحدت من إمكانيات التأثير داخليا. السعودية منذ البداية تعاملت بحزم وقامت أجهزتها الأمنية باستدعاء المدونين وإرغامهم على ابتلاع ألسنتهم. مصر واجهت المدونين بعنف عن طريق الاعتقالات، مما ساهم في ترويج فكرة التدوين محليا. وإن كان من الصعب التأكيد إذا كان التضييق الذي تعرض له المدونون بفعل تدوينهم أم بفعل انتمائهم للجمعيات الحقوقية. أما المغرب فعلى العكس، تجاهل المدونات تماما عن عمد، مما حد من قدرة المدونات على الانتشار وعدم وصول قضاياها إلى الصحافة والمواطنين.
النتيجة هي أن البعض أصبح كمن يحارب طواحين الهواء، دون وجود من يتأثر به ولا من يستمع. والبعض اختار سياسة النعامة، فدفن رأسه في مواضيع بعيدة عن احتياجات المواطنين، فمنهم من إنكفأ داخل نفسه يسطر ما يمر بيومه من تفاصيل، ومنهم من ذهب إلى الكتابة عن المواضيع التكنولوجية فطفق ينقل ويترجم عن المدونات الإنجليزية. ولكن هذا لا يعني تجاهل حالات متميزة وسط فضاء التدوين العربي.
المستقبل الغامض
التدوين نشاط فردي بطبيعته، غير أن خصوصيات المجتمعات العربية تستلزم تحول هذا النشاط الفردي إلى نشاط جماعي يعتمد على التنسيق المبكر والمضبوط فيما يتعلق بقضايا ذات طبيعة اجتماعية وسياسية تهدف إلى تحقيق تغييرات مجتمعية لصالح المواطن.
في ريأيي أن المدونين العرب يمكنهم مستقبلا، المساهمة في بناء المجتمعات العربية، لكن الأمر لن يكون سهلا ولا يسيرا. فأنا أعتقد أن ثمة شروط لا بد أن تتحقق، من قبيل: دمقرطة المؤسسات، تيسير الوصول لمصادر الخبر، إصلاح القضاء، الرفع من هامش حرية التعبير، توسيع شبكة الربط بالإنترنت... إلخ، وإلا فإن التدوين العربي سيبقى في حال ركود دائمة.