توحيد الرقم القومي والرقم التأميني نهاية لأشهر حالات الأصدقاء الألداء
قبلت وزارة المالية قبل اسبوعين بإحداث تغيير جوهري في قاعدة بيانات التأمينات الاجتماعية القومية يتم بموجبه العمل بالرقم القومي والبيانات المرتبطة بقاعدة الرقم القومي داخل قاعدة بيانات التأمينات القومية بدلا من الرقم التأميني الشهير العتيق المعمول به منذ عقود, وهي خطوة تنهي حالة من الانفصام والخصام الضار وغير المبرر سادت لأكثر من عقدين ونصف من الزمان بين القاعدتين اللتين تعتبران أكبر قاعدتين للبيانات والمعلومات في البلاد, وتمثلان مدرستين كبريين في التنمية المعلوماتية الشاملة كل منهما رأي في نفسه تميزا وقوة وخبرة وعمق فأخذته العزة ونأي عن الآخر ورآه غير جدير سوي بالتمسح الظاهري واللدغ الخفي علي طريقة الأصدقاء الألداء إن جاز التعبير... ما أهمية هذه الخطوة التي مر الإعلان عنها مرور الكرام في أوساط تكنولوجيا المعلومات التي أدمنت الطنطنة بما هو هامشي أو ضئيل القيمة؟ كتبت في هذا المكان مرارا عن' الجدار العازل' السميك الذي صنعته بيروقراطيتنا العتيقة ذات الفكر الإداري والقانوني والتشريعي والإجرائي المنغلق الذي يمنع تداول وانسياب المعلومات ويحجبها عن المتعاملين معها, سواء من الموظفين والمسئولين أو المواطنين, وهو جدار راح يترسخ ويتمدد عبر سنوات طويلة حتي أصبح يتلوي كالأفعي بين وحدات الاقتصاد والهيئات والمؤسسات الحكومية مسببا حالة من التشرذم المعلوماتي بالمجتمع, وجاعلا المعلومات الموجودة في جنباته مسجونة داخل كانتونات منغلقة علي نفسها, يصعب إن لم يكن يستحيل أن تنساب منها وإليها المعلومات بحرية وشفافية وسهولة طبقا لمتطلبات ومقتضيات حركة المجتمع والدولة والحكومة والأفراد. وقلت مرارا إن هذا الأمر يعد أشد العوائق أمام إحداث تنمية معلوماتية حقيقية وفاعلة تقود البلاد إلي اللحاق بمرحلة الاقتصاد القائم علي المعلومات وصولا إلي مجتمع المعلومات, وكثيرا ما تناولت أوجه عديدة لهذا المرض العضال وما يفعله بمصر ومستقبلها وقدرتها علي استعادة عافيتها وحيويتها والحصول علي مكانتها التي تستحقها في عالم اليوم والغد. وقد كانت حالة الجفوة والانفصام بين قاعدة بيانات الرقم القومي وقاعدة بيانات التأمينات الاجتماعية القومية من أبرز تجليات هذا الجدار, فالقاعدتان تشكلان أبرز الأصول المعلوماتية الثابتة الكبري لدي الدولة والمجتمع, لكنهما لم تكونا تلتقيان علي شيء من التعاون الحقيقي الجاد, فقاعدة التأمنيات الاجتماعية نشأت تاريخيا قبل الرقم القومي وشكلت مدرسة في بناء وإدارة قواعد بيانات عملاقة, وحينما بدأ التفكير في الرقم القومي كان الرأي لدي أصحاب هذه المدرسة أن الرقم التأميني يصلح كرقم قومي, ومن ثم يتعين علي مشروع الرقم القومي أن يأخذ به ويستفيد منه ويبني عليه ويضيف إليه, ولا داع للبدء من الصفر بتكوين رقم قومي جديد. في المقابل فإن قاعدة بيانات الرقم القومي منذ لحظة التفكير في إنشائها مطلع الثمانينات من القرن الماضي نأت بنفسها عن مدرسة التأمينات وأخذت بفكر آخر, فانتهت إلي كونها مدرسة تري أن الرقم القومي أعم وأشمل من الرقم التأميني, لكونه ـ أي الرقم القومي ـ صمم ليكون قاعدة أساس لتقديم جميع الخدمات والمعاملات الرسمية ما بين الحكومة والمواطن بما فيها التأمينات, وبالتالي فالأفضل أن يحل الرقم القومي محل الرقم التأميني ليصبح كود أو أداة تعريف المواطن واحدة في الحالتين. ما بين مدرسة سابقة وعريقة تري أن لديها ما يشكل نواة جاهزة لرقم قومي, وبين مدرسة حديثة جديدة تري أن لديها توجها أكثر رحابة وتفرد احتواء الرقم التأميني, ولدت الجفوة والانفصام بين الجانبين, فظلت قاعدة بيانات الرقم التاميني تنمو وتتراكم لديها الخبرات حتي وصلت إلي ما يزيد علي60 مليون رقم حسب تصريح أحد مسئولي وزارة المالية في البيان الذي نشرته الصحف الأسبوع قبل الماضي, وفي المقابل واصلت قاعدة بيانات الرقم القومي النمو والنضج واكتساب خبرات وقدرات جديدة مع الوقت حتي أصبح مسجل بها الآن كل من ولد بمصر منذ عام1900 وحتي الآن من الموتي والأحياء والمهاجرين. ولأكثر من عقدين ونصف سارت العلاقة بين القاعدتين علي طريقة الاصدقاء الألداء, فظاهريا ظل كلاهما يقول عن الآخر أنه مكملا له وأنهما معا ذراعان من أذرع الدولة وأصولها الثابتة في مجال المعلومات, وعمليا ظل كلاهما ينظر لنفسه علي أنه الأصل والآخر هو الفرع ولذلك فالآخر ليس البديل الأفضل, بل يجب أن ينزوي ويطوي تحت جناحه وأن استمراره بهذه الصورة خطأ. بعبارة أخري كانت مدرسة الرقم التأميني تري أنها الأعرق والأكثر خبرة وأنها أكبر من أن تطوي تحت راية الرقم القومي وأن رقمها التأميني لا يجب أن يمس وبياناتها يتعين أن تظل مستقلة وتتعامل مع قاعدة الرقم القومي' رأسا برأس', فيما رأت قاعدة بيانات الرقم القومي أن الرقم التأميني لا مستقبل له لأنه رقم محدد الوظيفة, ومن ثم يجب أن يختفي ويحل الرقم القومي محله لأنه متعدد الوظائف ويصلح ليكون أساسا لكل شيء. حدث هذا الانفصام علي الرغم من أن أكثر من نصف البيانات الأساسية المسجلة في القاعدتين عن المواطنين تعتبر متقاربة أو مكررة, وبسبب هذا الانفصام خسرت الدولة الكثير من الفرص وتحملت عبء ازدواج الجهد في كثير من الأحيان وعبء الإنفاق مرتين علي أمور كان يمكن الإنفاق عليها مرة واحدة. وخلال العقدين ونصف الماضيين ظلت قاعدة بيانات التأمينات الاجتماعية تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية, وقاعدة بيانات الرقم القومي تابعة لوزارة الداخلية, وقد حافظ هذا الهيكل السياسي والمؤسسي والوزن النسبي للوزارات التي تتبعها كل قاعدة من القاعدتين علي حالة الأصدقاء الألداء كنمط حاكم للعلاقة بين الاثنتين, لكن حينما تشكلت وزارة نظيف الثانية تم فصل هيئة التأمينات عن الشئون الاجتماعية سابقا ـ أو التضامن الاجتماعي حاليا ـ وجري ضمها لوزارة المالية وقد أدي ذلك ـ مع وجود الدكتور نظيف أحد الآباء الروحيين للرقم القومي علي رأس مجلس الوزراء ـ إلي تغيير الموقف بشكل واضح, فقد مالت الأمور داخل مجلس الوزراء نحو فتح الطريق أمام الرقم القومي ليتقدم ويحتل مكانة الرقم التأميني, والواضح أن الأمر لم يكن سهلا أو بسيطا, بل استغرق أكثر من عامين حتي تتهيأ الظروف للإعلان عن البدء في تنفيذ هذه الخطوة رسميا, وقد جاء في البيان الصادر بهذا الشأن ونشرته الصحف أن وزارتي المالية والداخلية بدأتا تنفيذ المرحلة الثانية لتوحيد استخدام الرقم القومي فيما بينهما وفقا لبروتوكول تعاون وقعته كل من الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي ومصلحة الأحوال المدنية يحل بموجبه الرقم القومي محل الرقم التأميني في جميع المعاملات التأمينية ضمن خطة تعميم استخدام الرقم القومي ليصبح هو الرقم الوحيد لجميع تعاملات المواطنين مع جميع الجهات في الدولة. عمليا يدشن هذا البيان بدء طي صفحة' الأصدقاء الألداء' وفتح صفحة' الانضواء' تحت راية الرقم القومي, وهذا تطور إيجابي ينهي الازدواجية والنزيف المستمر في الجهود المبذولة علي الجانبين في تجميع وتجهيز قدر لا يستهان به من البيانات التي يمكن استيفاؤها من مصدر واحد هو قاعدة الرقم القومي, وفي هذا الصدد قال الدكتور أحمد معيط مستشار وزير المالية للتأمينات للصحف أن بروتوكول إحلال الرقم القومي محل الرقم التأميني' سيتيح للهيئة القومية للتأمينات والمعاشات استبدال ما يزيد علي60 مليون رقم تأميني مسجل حاليا ببيانات الهيئة بالرقم القومي, وسوف يساعد هذا علي التحقق من صحة بيانات المؤمن عليهم من اسم وعنوان وتاريخ وجهة الميلاد واسم الأب والأم والمهنة والحالة الاجتماعية'. هنا نحن أمام ثغرة قوية تنفتح في الجدار الصلد العازل للمعلومات بين وحدات الجهاز الاداري الاقتصادي للدولة, وممر أو قناة جديدة يفترض أن تنساب فيها المعلومات فيما بين عملاقين سادت بينهما الجفوة والانفصام لأكثر من ربع قرن, وأتمني أن تمهد هذه الخطوة للتطور الأكبر المعطل منذ أكثر من ربع قرن أيضا, وهو فصل قاعدة بيانات الرقم القومي عن وزارة الداخلية تماما, وتحويلها إلي هيئة قومية مستقلة للمعلومات المدنية تتولي مسئولية تحويل الرقم القومي إلي قاعدة تحكم جميع المعاملات الرسمية سواء داخل مؤسسات الدولة المختلفة أو في المعاملات بين المواطن والدولة فبالنسبة لتطبيقات الرقم القومي داخل مؤسسات الدولة يمكن استخدامه مثلا في إعداد قوائم الانتخابات وتحديث وضبط الجداول الانتخابية علي نحو دقيق وسهل, وفي التعليم يمكن استخدامه في إعداد قوائم للأطفال في سن الحضانة والتعليم الإلزامي, ومعرفة نسب التسرب من التعليم,و إدارة الموارد المخصصة من قبل الدولة لقطاع التعليم الإلزامي, وإعداد قوائم بالمطلوبين للتجنيد, بما يقدم دعما قويا لأعمال إدارات التجنيد والتعبئة, وبناء برامج ونظم تنتج إحصاءات ومؤشرات دقيقة حول توزيعات المواطنين المقيمين في كل منطقة جغرافية, طبقا للحالة الاجتماعية والتعليمية والمهنية, وإعداد دراسات عميقة في هذا الشأن أما بالنسبة لعلاقة المواطن العادي بهذه الجهات فبالإمكان استخدام الرقم القومي في إصدار سلسلة من البطاقات المتنوعة الخدمات والأهداف, جميعها يحمل الرقم نفسه, ويتعامل بها المواطن مع جميع الهيئات والوزارات, فتكون لديه بطاقة صحية وبطاقة تأمين وبطاقة معاش وتأمينات وبطاقة ضريبية وسجل تجاري وبطاقة للطالب وبيانات للقوي العاملة والتعامل مع الشهر العقاري, وبطاقات للتعامل مع البنوك والمصارف, وبطاقات أو شهادات ميلاد أو شهادات وفاة. يبقي القول إننا أمام خطوة جاءت متأخرة, فعلي الأقل كان علي رئيس الوزراء إنجازها منذ الشهر الأول لوزارته الأولي عام2005, لكن علي أية حال فإن من يصل متأخرا خير ممن لا يصل علي الإطلاق. جمال محمد غيطاس ghietas@ahram0505.net